Abstract:
لملخص
اكتسبت الأسرة الإنسانية على مر التاريخ مكانتها وأهميتها من الأدوار والوظائف التي تقوم بها لنفسها، أو لأفرادها، أو للمجتمع الكبير، هذه الوظائف والأدوار والتي اختلفت باختلاف المجتمعات وباختلاف العصور لطالما دعمت مركز الأسرة وقوت من نفوذها وتأثيرها، وقد أشار علماء الاجتماع والأنثربولوجيا إلى أن الأسرة منذ بداية ظهورها كانت تقوم بجميع الوظائف إلا أن التغيرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع جعلت دور الأسرة يتراجع في أداء هذه الوظائف .
ومما لاشك فيه أن التغير في أداء هذه الوظائف والأدوار، والذي يرجع بطبيعة الحال إلى عوامل مختلفة، يفسح المجال أمام قوى أخرى أكثر سطوةً وأكثر تأثيراً، لإعادة تشكيل شخصيات الأفراد وبناء سلوكياتهم وطبائعهم، بل والتأثير في بعض الأحيان في عقائدهم الدينية وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، ومجمل ثقافة مجتمعهم التي كانت الأسرة أمينة عليها تنقلها من جيل إلى جيل .
هذه القوى التي اصطلح العالم على تسميتها بالعولمة ، والتي برزت بشكلٍ واضح خلال عقد التسعينات، ورأى فيها الكثيرون أنها تجسد حالة حضارية يكون معها العالم أكثر تواصلاً وأكثر انفتاحاً وتداخلاً، وتكاملاً وتجانساً في مختلف ميادين الحياة، وأنها الحالة التي تمكن الانسان من أن يكون قاب قوسين أو أدنى من أكثر أصقاع الدنيا ابتعاداً أو أشدها نأياً، حاضراً في أي مكان من المعمورة وهو غير متواجد في ذلك المكان، إنها المرحلة التي تذوب فيها الحدود والحواجز بين الدول، من خلال التبادل المكثف للتكنولوجيا والمعلوماتية التي تتجاوز فيه قدرة الإنسان على الفعل والتأثير، وسرعان ما أصبحت هذه الظاهرة مصدر اهتمام وقلق المجتمعات في العالم بأسره، نظراً لتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي كشفت كثيراً من تناقضاتها وسلبياتها، مما جعل العالم يقف منها ما بين مؤيد ومعارض، فهي بقدر ما تحمل من مؤشرات ايجابية ، يأتي في مقدمتها ازدياد التبادل العلمي والثقافي بين المجتمعات، ودعم وجود حضارة انسانية واحدة تجمع الشعوب ولا تفرقها، والتوحد مع الأسرة العالمية في مسعاها للوصول إلى حقوق الإنسان وحريته، فإنها تحمل الكثير من المؤشرات السلبية لهذه المجتمعات، فهذا التبادل الثقـافي الذي يحدث على مستوى العالم تسيطر عليه جهـة واحدة لأنـه "يأتي من المراكز الرأسمالية بكل قوتـها وعنفوانها وقدراتها الاعلامية والتكنولوجية، ويصب في دول الأطراف كمجتمعات العالم الثالث، التي تصبح في الواقع مجرد مستقبلة لهذه الرسائل الاعلامية والثقافية، بكل ما فيها من قيم ، وهي في جميع الحالات تحمل أخطار الغزو الثقافي، مما يهدد الخصوصية الثقافية لهذه المجتمعات .
ارتبطت العولمة بالثورة العلمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأدت إلى تحولات كان من شأنها اندماج العالم وانكماشه، وبالتالي إلغاء فكرة المكان ومفهوم الزمان، بالإضافة إلى أنها أحدثت في تطورها تغيرات جذرية في طرائق حياة الناس وأدوارهم ونمط معيشتهم وكيفية تعاملهم مع المواقف الحياتية المختلفة، بل إنها أدت إلى نوع من الحراك الاجتماعي صعوداً وهبوطاً غير من المراكز النسبية للطبقات والشرائح الاجتماعية في أنحاء العالم"(1).
وما يهمنا من قضية العولمة في هذا البحث ليس إيجابياتها، وإنما التحديات التي تفرضها على المجتمعات، وعلى الجماعات الانسانية وأهمها الأسرة، في ظل التغيرات التي طالت بناءها ووظائفها ومجمل أدوارها التي تؤديها للفرد والمجتمع، هذا مع إيماننا بأن هذه الظاهرة ليست شراً كلها وليست خيراً كلها .
وإذا ما أردنا الاقتراب من مفهوم العولمة " فلابد من الأخذ في الاعتبار أنها تمر بثلاث عمليات تكشف عن جوهرها، الأولى تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح متاحة لجميع الناس، والثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول، والثالثة تتمثل في زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات"(2)، ولعل الجماعة الصغيرة (الأسرة) معنية بهذا التشابه من خلال تبني النموذج الغربي في كل ما يتعلق بالحقائق والأساليب والوقائع الحياتية المعاصرة للأسرة، وبالتالي فإن هذه العملية تؤدي حتماً إلى نتائج سلبية بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث، وإلى نتائج إيجابية بالنسبة إلى المجتمعات المتقدمة نظراً لعدم التكافؤ العلمي والتكنولوجي والاقتصادي بينها، وعدم قدرة المجتمعات النامية على التنافس لضعف امكانياتها ، وهذا ما يجعل الخطر محدقاً بها جراء هذه المعادلة .